ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عِلَلهم والكلام كلامهم وهو سَيِّد عملهم قد فاض بيانهم وجاشت به صدورهم وغلبتهم قُوَّتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيَّات والعقارب والذئاب والكلاب والخنافس والجُعلان والحَمير والحمام وكلِّ ما دبَّ ودرج ولاح لعينٍ وخَطَر على قلب، ولهم — بعدُ — أصناف النظم وضروب التأليف كالقصيد والرجز والمُزدوج والمُجانس والأسجاع والمنثور، وبعدُ فقد هَجَوه من كل جانب، وهاجى أصحابُه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجُّوه في المواقف، وخاصَموه في المواسم، وبادَروه العداوة، وناصَبوه الحرب، فقَتل منهم وقَتلوا منه وهو أَثبتُ الناس حقدًا وأبعدهم مطلبًا وأذكرهم لخير أو لشر وأنفاهم له وأهجاهم بالعَجز وأمدحهم بالقُوة، ثم لا يُعارِضه مُعارض ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر! فالتحلي بالفضائل يعتبر سمة من سمات المؤمنين الموقنين الذين يسعون الى الكمال في الحياة الدنيا ليكونوا من الذين رضي الله عنهم ، فالتحلي بفضائل الاخلاق أمراً ميسورا للكثير من المؤمنين الذين يدأبون على ترويض انفسهم وابعادها عن مواطن الشبهة والرذيلة.
كان ذلك وسيلة مهمة من قبل الدعاة والمصلحين في تنشئة الأطفال ليصبحوا علماء، ومن الخطأ أن يُمنَع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، كما أن من الخطأ عدم الاهتمام بالنشء في هذه الفترة المبكرة.
فمقته الخليفة وقال عند ذلك: أُفٍّ لهذا الجاهل مرةً والمُعاند مَرَّة.
ألا ترى أن أمةً قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله، وأُمةً قد اجتمعت على أنه ابن الله، وأُمةً اجتمعت على أن الآلهة ثلاثةٌ عيسى أحدهم، ومنهم من يتذبذب، ومنهم من يَتدَهَّر، ومنهم من يَتحوَّل نسطوريًّا بعد أن كان يعقوبيًّا، ومنهم من أسلم بعد أن كان نصرانيًّا! وكالمَثَل يحظى ويسير وغيرُه من الأمثال أَجوَد.
فلم يرض أن أظهر دينه حتى جعل أهله الغالِبِين بالقدرة والظاهرين بالمنَعَة والآخذِين الإتاوة.
واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليُوفِّق بينهم، ولم يُحب أن يُوفِّق بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مُسخَّرِين بالأسباب المُختلِفة وكانوا مُجبَرين في الأمور المتفِقة والمختلِفة لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفي هذا ذَهاب العيش وبُطلان المصلحة والبَوار والتواء، ولو لم يكونوا مُسخَّرِين بالأسباب مُرتهَنِين بالعِلل لرغبوا عن الحجامة أجمعِين وعن البيطرة والقِصابة والدِّباغة.